د. إبراهيم علوش
السبيل 22/7/2010
في حوار حول تاريخ الصراع مع بني “إسرائيل”، أشار الصديق علي حتر ل”مسلة ميشع”، وهي من أهم آثارنا المعتقلة في متحف اللوفر الباريسي، مما يجعلها جزءاً من المنهوبات الاستعمارية الأوروبية لتاريخ بلادنا وتراثها.
أما ميشع فهو ملك للمؤآبيين، وهم من الأقوام العربية الكنعانية القديمة. وقد أقام المؤآبيون مملكة لهم في الكرك ومادبا شرق الأردن. ونقش أو حجر أو مسلة ميشع، أو “الجحر المؤآبي” كما سمي في القرن التاسع عشر، تم اكتشافه في عام 1868 ميلادي في ذيبان، عاصمة المؤآبيين القديمة، وهي حالياً إحدى قرى محافظة مادبا. وتوجد نسخة من مسلة الملك ميشع في قلعة الكرك، ومتحف الآثار في عمان…
وأهمية مسلة ميشع أنها تتحدث في 34 سطراً منقوشاً في الصخر البازلتي الأسود عن انتصارات ميشع ملك المؤأبيين على عُمري ملك “إسرائيل” وابنه حوالي عام 840 قبل الميلاد، وكيف حرر ميشع مادبا من حكم “الإسرائيليين” بعدما احتلوها أربعين عاماً، وكيف هاجم إحدى المستعمرات “الإسرائيلية” ذات فجر وأباد سبعة آلاف من سكانها رداً على الاضطهاد “الإسرائيلي” للمؤآبيين.
إن من يحملون عقلية مثل عقلية بني “إسرائيل”، وهي العقلية التي يكرسها التلمود وكل الثقافة اليهودية عبر العصور، ثقافة الاستذءاب والاستعلاء والاستيلاء والتعصب ضد الأغيار، لا يمكن لهم أبداً أن يتعايشوا مع محيطهم بصورة طبيعية. وقد خاض المؤآبيون والعمونيون (من الأقوام العربية الكنعانية أيضاً، إلى الشمال من المؤآبيين) صراعات دموية ومعارك مع “الإسرائيليين”.
وتعبر صفحات التوراة، بغض النظر عن مدى دقتها، عن حقد يهودي متجذر على العمونيين والمؤآبيين، كما تعبر عن مشروع هيمنة إقليمي “إسرائيلي” يتطلب، فيما يتطلبه، الانتقاص من العمونيين والمؤآبيين، وإنكار حقهم بالوجود، ومشروعية مطالبهم باسترجاع الأراضي المحتلة في جلعاد (شمال الأردن) وغيرها. وقد وثقنا بعضاً من ذلك في مادة “تاريخ عمون رسمه الصراع مع بني “إسرائيل”، التي يمكن إيجادها بسهولة على الإنترنت. ومنه مثلاً ما جاء تحت الرقم 22 في الفصل الحادي عشر من سفر القضاة في التوراة من أن “الإسرائيليين” قد مدوا سيطرتهم من البرية حتى الأردن (النهر)، وبأنهم (أنتبه جيداً) يطالبون بملكية الأراضي الواقعة خلف الأردن، “حتى لا تبقى فسحة لعمون”!!
ويشهد تاريخ المنطقة القديم بأن “الإسرائيليين” القدماء، خلال وجودهم العابر في بلادنا، تبادلوا ممارسة العنف مع كل قومٍ جاوروهم أو حكموهم، من المصريين إلى العراقيين القدماء الذين حرروا الأردن وفلسطين من نير “إسرائيل” القديمة، وهو الأمر الذي ما برحوا يدفعون ثمنه حتى الآن، حيث استشهد نيتنياهو في التسعينات مرة بذكرى “السبي البابلي” رداً على المطالبين برفع الحصار عن العراق وقتها.
فهذا الصراع التاريخي والتناحري كان شرق الأردن جزءاً أصيلاً منه، تماماً مثل أرض كنعان غرب النهر، كما تشهد مسلة ميشع، وصفحات التوراة التي تهاجم الأردنيين في انتهاك فاضح لمعاهدة وادي عربة التي تمنع التحريض المتبادل دون أن يطالب المفاوض الأردني بحذفها كما طالبوا بحذف الآيات التي يزعمون أنها تحض على العنف ومعاداة اليهود في القرآن الكريم!!
مسلة ميشع منحوتة في الصخر طبعاً، فهي ليست ورقاً وحبراً، بل اثر تاريخي اكتشفه الأوروبيون ككثيرٍ من آثارنا، ولا بد من استرجاعه من أيديهم، تماماً كما لا بد للعرب من استرجاع مخطوطات قمران، أو لفائف البحر الميت، التي كانت تحت السيادة الأردنية في القدس حتى احتلالها عام 67، وهي مخطوطات يتجاوز عمرها ألفي عام على الأقل، لم يكن يجوز التخلي عنها، حتى للقلة المقتنعة بتوقيع معاهدة “سلام” مع العدو الصهيوني.
كما لا بد من العمل على استعادة حتى واجهة قصر المشتى الموجودة في متحف برلين، التي يفتي البعض بعدم جواز المطالبة بها، لأنها هدية من السلطان عبد الحميد إلى الإمبراطور الألماني… فالآثار جزءٌ من تراثنا، وتراثنا جزءٌ من هويتنا الجمعية، وسرقة التراث لا تختلف عن سرقة الذاكرة.